من مقاعد الدراسة إلى “أوسطة”.. ثلاثة إخوة سوريين يواجهون متاعب العمل في تركيا

من مقاعد الدراسة إلى “أوسطة”.. ثلاثة إخوة سوريين يواجهون متاعب العمل في تركيا

يستقبل محمد كل يوم جديد بمخطط يشبه اليوم الذي سبقه، فالروتين المتكرر يفرض عليه الاستيقاظ باكرًا والذهاب برفقة أخويه الأصغر منه سنًا إلى عملهم الطويل في حي غازي عثمان باشا، وهو أحد أحياء الشطر الأوروبي من مدينة اسطنبول التركية.

يعمل الإخوة الثلاثة ضمن مصنع صغير (ورشة) لصناعة الأحذية الرياضية، حيث مضى على عملهم هذا ما يزيد على سبع سنوات، بعد مغادرتهم مدينة حمص من جراء الحرب، تاركين خلفهم أحلامهم الأولى.

محمد كروما (30 سنة)، من حي بابا عمرو الحمصي، غادر مدينته عندما كان طالبًا في السنة الثالثة بكلية الهندسة المدنيّة، في جامعة البعث، قسم البيئة، يقول في حديث لـ “برنامج مارِس التدريبي”: “كانت الفرحة لا تسعني عندما أسمع كلمة مهندس من أبناء ونساء حارتي أيام الجامعة”.

يعمل محمد ساعات طويلة تصل إلى 12 ساعة يوميًا، ولكنه تأقلم مع طبيعة العمل، متغلبًا على الصعوبات وحاجز اللغة الجديدة، متقنًا عمله لدرجة أن زملاءه باتوا ينادونه “أوسطة محمد”.

ويضيف محمد، “لم أكن أتخيل ولو للحظة واحدة أن صفة المهندس التي لازمتني في فترة من الفترات، ستستبدل بكلمة (أوسطة) التركية، التي تقابلها باللهجة السورية الشعبية (معلم)”.

يعيش في تركيا قرابة ثلاثة ملايين وسبعمئة ألف لاجئ سوري، قسم منهم شباب جاؤوا دون أهاليهم هربًا من الحرب وملاحقات التجنيد، ولإعالة أسرهم في سوريا، بعضهم يمتلك أوراقًا رسمية (وثيقة حماية مؤقتة أو إقامة) وبعضهم الآخر لا يمتلكها.

ويعمل جزء من السوريين الموجودين في تركيا، بأعمال يدوية ومهن بعيدة عن تخصصهم العملي، رغم أنها لا تتناسب مع مهاراتهم التي يمتلكونها، لكنهم أجبروا عليها في سبيل تأمين حياة كريمة لهم ولأسرهم.

السوق السوداء

على الرغم من محاولات السلطات التركية ضبط سوق العمل، إلا أن غالبية العمال الأجانب والسوريين في البلاد يعملون من دون تصاريح عمل، أو عقود رسمية، ومن دون أي أوراق قانونية تضمن حقوقهم كعمال، هذه الظاهرة تعرف باسم “العمل في السوق السوداء” عالميًا، ويطلق عليها في تركيا اسم “قجق”.

محمد وأخواه، ورغم مضي سبع سنوات على وجودهم في اسطنبول والعمل في ورشاتها، لا يملكون إذن عمل في المصنع أو تأمينًا صحيًا، على عكس الأتراك.

وكانت وزيرة العمل التركية، جوليدا صاري أوغلو، صرحت خلال مؤتمر “اندماج السوريين الذين هم تحت الحماية المؤقتة” الذي عقد في مدينة اسطنبول، أواخر 2018، أن الحكومة التركية تعتزم دمج العمال السوريين بسوق العمل التركي بشكل قانوني.

وبحسب قانون العمل التركي يحق لحاملي بطاقة الحماية المؤقتة (الكيميلك) الحصول على إذن عمل، ولكنه يشترط ألا يزيد عدد الأجانب حاملي الحماية المؤقتة على 10% من مجموع العاملين من المواطنين الأتراك.

“لذلك نضطر للعمل بلا إذن عمل وبأجور أقل، على الرغم من أن الحد الأدنى للأجور قد ارتفع، لكننا لم نستفد من ذلك، بسبب عدم امتلاكنا لإذن عمل”، يقول عصام أصغر الإخوة الثلاثة.

تدني الأجور

وبحسب محمد فإنه اضطر للعمل في المصانع التركية حيث تطول ساعات العمل، وينخفض مرتبه عن مرتب زملائه الأتراك العاملين معه بذات المصنع، “يتراوح الأجر الأسبوعي للعمال السوريين في المعامل التركية بين 150 و500 ليرة تركية (ما بين 30 دولارًا إلى 100 دولار أمريكي)، وهو بالكاد يكفي لتأمين المعيشة”.

وفي أواخر العام الماضي أعلنت وزارة العمل التركية، رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 26%، لتصبح بداية العام 2019 بقيمة 2020 ليرة شهريًا أي ما يعادل 400 دولار أمريكي تقريبًا.

خالد الأخ الأصغر من محمد (28 سنة)، يرى أن معاملة الأتراك، من أرباب عمل وعمال، لا تختلف بين الأتراك والسوريين من الناحية الإنسانية، ولكن الأمر يختلف من ناحية الحقوق.

ويقول خالد، “العامل التركي أجوره أعلى، يمتلك إذنًا للعمل وتأمينًا صحيًا، حتى نظام الإجازات يختلف عن العامل السوري، فهو لديه نهاية العام إجازة نصف شهرية مأجورة”.

أحلام مؤجلة

ويضيف خالد، الذي كان طالبًا في السنة الأولى بكلية العلوم، في جامعة البعث بحمص، قبل وصوله إلى تركيا برفقة أخويه، “عانينا كثيرًا حتى استقرت بنا الأحوال، واستطعنا تأمين عمل لنا نحن الثلاثة، في صناعة الأحذية التي لا تلبي طموحاتنا”.

ويتابع حديثه لـ “برنامج مارِس التدريبي”، وملامح التأثر بادية على وجهه، “أنا أيضًا قريب من أن أصبح (أوسطة) مثل أخي محمد، أرغب كثيرًا بالعودة إلى مقاعد الجامعة، لكنني حتى اللحظة أسير للظروف القاهرة”.

أما عصام (25 سنة)، الذي كان يحلم بأن يدخل كلية الطب البشري، فيقول “الحرب جاءت في التوقيت الخاطئ وقضت على أحلامي وأحلام والدي، ونقلتني إلى مكان أكبر تحد فيه أن يصبح الشخص (أوسطة)”.

وما زال عصام يتحدى كل ظروفه الراهنة، أملًا بفرصة تعيده إلى تحديه السابق بأن يكون طبيب العائلة، “الطبيب الأول والأخير في العائلة”، باعتباره “آخر العنقود”، فالوقت لم يفت حتى اللحظة، وما زال هناك الكثير، على حد تعبيره.

حال الإخوة الثلاثة ليست الوحيدة بين سوريين أجبرتهم الحرب وتداعياتها المستمرة، على ترك مقاعد دراستهم، وتحولهم لأعمال أخرى تعينهم على تأمين مصاريف الحياة، بل هي غيض من فيض.