- المصدر: عكس السير
- 23680 قراءة
لاجئ سوري يكتب مقالاً لـ CNN: هكذا هربت إلى أوروبا بقوارب الموت.. ولهذا استحق الأمر هذه المعاناة
كنت سأقوم بأي شيء حتى أتمكن من الوصول إلى أوروبا، وكانت تجربة تستحق ما جازفته لأجلها، المعاملة السيئة والخوف، قد تبدو كلها قاسية لمن يمكن أن يواجهها، ولكن وبكل بساطة إنني الآن أعيش حياة أفضل من ذي قبل.
لكن رحلتي التي قطعت بها البحر الأبيض المتوسط، مثل الألوف الذين سبقوني لم تكن سهلة إطلاقاً، إليكم قصتي:
بدأ الأمر كله العام الماضي عندما فقدت وظيفتي في إحدى دول الخليج، بعد انتهاء تأشيرة العمل لم يكن لدي مكان آخر أتوجه إليه، فأنا سوري، لكن العودة إلى سوريا لم تكن خياراً في الأصل، فالعودة ستعني إما القتل أو التعرض للقتل.
لكن السوريين لا يحتاجون تأشيرة للسفر إلى تركيا، لذا فتركيا كانت هي الوجهة، بلغت تركيا في ديسمبر مع حلم قديم شغل بالي: الوصول إلى أوروبا.
وخلال إقامتي في إسطنبول وجدت العديد من الصفحات في فيسبوك مختصة بالتهريب غير الشرعي من تركيا إلى إيطاليا بحراً، وجميعها ذكرت “مرسين”، وهي مدينة ساحلية تقع على الحدود الجنوبية، التي تعتبر الوجهة الأولى لأوروبا، لذا أخذتها بعين الاعتبار.
بعدها قابلت رجلاً سورياً في فندق بمدينة “مرسين”، الذي قام أيضاً بدفع أموال لأحد المهربين، وكان يخطط للمغادرة خلال أيام معدودة، وأخبرني بأن مهربه كان رجلاً شريفاً وبسمعة محترمة.
السمعة: كان من الطريف أن أسمع هذه الكلمة للمرة الأولى في هذا الوقت، خاصة عندما يتعلق الأمر بهؤلاء الأشخاص، الذين كنت أعتبرهم أقرب للمجرمين، وكيف يأبهون لما قد يراه الناس فيهم، ولم لا؟ فهذا مشروع طويل الأمد، ولا يبدو بأن النزاع السوري سينتهي عما قريب، لذا قررت أن أتعرف على الرجل.
تحدثنا عن طرق الدفع، واتفقنا على مبلغ يساوي 6500 دولار، جزء من هذا المبلغ سيودع لحساب شركة تأمين، مع الطرق المعتادة لتحويل الأموال، وعندما أصل إلى إيطاليا ستحول الأموال إلى المهرب أو، في حال غيرت رأيي، سأتمكن من استعادة جزء من تلك النقود.
“كن مستعداً كل يوم خلال الأيام القليلة القادمة لأنك قد تتلقى اتصالاً لتنطلق”، هذا ما قاله المهرب لي، وفي مساء أحد الأيام تلقبت الاتصال لتبدأ بذلك رحلتي.
تجمع 100 رجل وامرأة في خمس حافلات، واصطحبونا إلى نقطة التهريب، التي كانت بعيدة عن “مرسين”. مشينا لحوالي 30 دقيقة، في حقول وعرة ومزارع للبرتقال بالقرب من الشاطئ، وكل ذلك في الظلام لتجنب اكتشاف الشرطة لنا.
تمثلت الفكرة بأن نتوجه لثلاثة قوارب من أجل بلوغ سفينة كبيرة لا زلت أتذكر تلك المرأة العجوز التي لم تكن قادرة على المشي، كانت برفقة ابنيها وهي تعدو بأسرع ما تملكه من طاقة حتى تدرك القوارب، إذ أخبروا بأنهم إن لم يسيروا بالسرعة الكافية فإنهم القوارب ستغادر من دونهم.
سألت نفسي ولمرات عديدة، ما الدافع الذي يمكن أن يبلغ درجة يمكنك فيها للشخص العادي أن يفكر بتعريض حياته وحياة عائلته في مثل هذا النوع من الخطر؟ ووصلت للجواب، بأنه يمكن لمن يملك ماض دون أي مستقبل أن يتصرف بهذا الجنون.
وأخيراً وصلنا إلى القارب، الذي كان بالضبط وفق وصف المهرب له، وانتظرنا في القارب لثلاثة أيام حتى تصل دفعة مائوية أخرى قبل مغادرتنا، كنا وسط البحر المتوسط، بعيداً عن البلاد المجاورة نطفو في المياه الدولية.
وفي اليوم الرابع بدأت رحلتنا، مزيج بين الحماس والخوف، الخوف بأن ينتهي هذا الجنون بمأساة، أن ينتهي بنا المطاف كأعداد متراكمة فوق أرقام أخرى بائسة ومجهولة الهوية، أرقام لم تتمكن إطلاقاً من الوصول إلى الضفة الأخرى، لكن لم يكن هنالك سبيل للعودة، هذه تذكرة بوجهة واحدة.
أبحرنا لثماني ساعات قبل أن يتعطل محرك القارب، كان مجموعنا على القارب حوالي 300 شخص، وعندما بدأت الامواج بدفعنا نحو شواطئ قبرص، قام الطاقم بإرسال إشارات نجدة، آملين باحتمال تنبه قارب تابع للأمم المتحدة أو الصليب الأحمر لها، أو أي شخص يمكنه مساعدتنا.
وأخيراً اصطدم قاربنا بجرف صخري، وعلق قاربنا، لكن لحسن الحظ، ودون مرور وقت طويل أتى قارب تابع لخفر السواحل القبرصي لينقذنا ويعيدنا مجدداً إلى تركيا، حيث قامت السلطات التركية بأخذ بصماتنا وإطلاق سراحنا في غضون ساعات.
بعض الأشخاص الذين كانوا برفقتي قالوا إنهم لن يحاولوا القيام بتلك الرحلة مجدداً، وعندما سألوني عن خطوتي التالية، أجبت بأنني مستعد للمرور بالتجربة ذاتها، حتى ولو باليوم التالي إن استطعت، رحلة أخرى في البحر، حيث لا ينفع الدعاء، وحيث الجميع يقع تحت رحمة الطبيعة، في مكان يمكنك أن تشعر فيه بحجمك الصغير، مهما كبرت أحلامك.
لقد كنت في فترة من حياتي خسرت فيها كل شيء، لم تكن عائلتي على علم بما كنت أفعله، لكنني حلمت بأن أكون بشراً وأن أعامل على هذا الأساس، ولم يكن هنالك أي شيء ليوقفني، لذا اتصلت بالمهرب في الليلة التي أطلق فيها سراحي، وأخبرته بأنني أرغب بأن أذهب بالسفينة المبحرة تالياً.
وبعد يومين، تلقيت اتصالاً، وتوجهت مجدداً لنقطة تهريب، وفي هذه المرة كان لديهم قارب أكبر، بل كان أقرب لسفينة شحن، قد يبلغ طولها 85 متراً أو أكثر.
انتظرنا خمسة أيام حتى امتلأت السفينة بالركاب، كنا 391 لاجئاً من مختلف المدن السورية، لأول مرة في حياتي بدأت أشعر وكأني محتجز بسجن، لأواجه ظروفاً لا يفترض بأي إنسان عيشها.
احتجزنا في غرفة الشحن بالسفينة، لم نكن نملك أي سرائر أو ما نفترش به أرض السفينة المعدني، لكننا عثرنا على قطع خشبية وضعنا عليها بعضاً من أغراضنا حتى لا تتعرض للبلل، ولمدة خمسة أيام بقينا دون طعام وتمكنا من الحصول على القليل من المياه، لكن على الأقل كان ذلك يعني جولات أقل إلى “المرحاض”، أو ما يشبهه، إذ كان عبارة عن إطار سيارة مغطى بقطعة قماشية.
الأمواج ضربت القارب الكبير من كل الجهات، والمياه بدأت بالتسرب من سقف الغرفة بينما نامت أجسادنا على الأرضية المعدنية للسفينة، مع رائحة البول التي انبعثت من الزاوية.
وبعد مرور سبعة أيام على هذا الحال، وبالرغم من هذه الظروف السيئة، كان كل شيء يسير على ما يرام، حتى بلغنا البحار المرقطة بالجزر قرب اليونان، وفي اليوم الحادي عشر، على مسافة تزيد عن 300 كيلومتر من الشواطئ الجنوبية لإيطاليا، بدأ طاقم سفينتنا بإبلاغ حرس السواحل بقدومنا نحوهم. كنا تائهين في البحر، أو هذا ما قالوه للسلطات، دون قبطان أو طاقم، وهذا كان صحيحاً بعض الشيء، إذ لم يكن على متن السفينة قبطان مسجل، بل كان من يوجهها رجل كان يعمل سابقاً على متنها.
وقامت سفينة آيسلندية بإنقاذنا، طاقمها عمل بالتعاون مع “Frontex”، أي حرس الحدود الأوروبي المشترك، بالتعاون مع سفينة للأبحاث العلمية من نيوزيلندا.
تمكنت سفينة الإنقاذ من الاقتراب منا، لكنها لم تتمكن من الوصول إلينا بسبب الأمواج العالية، علمنا بأنه سيتوجب علينا أن ننتظر قليلاً حتى نغادر القارب دون رجعة، اللاجئون الآخرون كانوا يلوحون بأيديهم لخفر السواحل مثل الأطفال، ويخبرون بعضهم بأنهم رأونا وأنه لا داع للتلويح، كنت من بين آخر الأشخاص الذين أنقذوا من على متن السفينة، لا زلت أذكر شعوري عندما أنقذوني، كما لو أن الموضوع برمته حصل البارحة، كانت ولادة لحياة جديدة.
أخذونا إلى كاتانيا في صقلية، حيث وصلنا إلى اليابسة أخيراً، وعند وصولنا كان أول ما قامت به السلطات الإيطالية هو الاعتناء بالحالات الطارئة، فقد أصيب رجل بالتسمم من مياه الشرب التي كانت على القارب، وكان هنالك نساء حوامل وعجائز بحاجة لرعاية طبية.
اصطحبونا لمخيم للاجئين، حيث تحدث الجميع عن القلق من نية السلطات أخذ بصمات أصابعنا وتحويلنا إلى لاجئين وقال الجميع: “لم نخاطر بكل ما نملكه لنصبح لاجئين، لن نعطيهم بصماتنا، حتى ولو عذبونا.”
وفي وقت لاحق أخبرنا رجل بأنهم لن يقوموا بأخذ بصماتنا، بل كانوا سيصطحبوننا إلى مخيم آخر، وانتهت بذلك رحلتنا للذهاب إلى أوروبا بعد 12 يوم على بدئها. أمضيت يومين في صقلية قبل بلوغي لميلان أولاً برفقة شابين أصبحا صديقي، وتوجهنا معاً إلى ألمانيا ومن ثم إلى باريس، وانتهى بنا المطاف في مدينة اسمها “ساربروكين.”
لا أعلم بما حل ببقية من سافروا معي، لكنني موقن بأمر واحد فقط: حلمي ببلوغ أوروبا استحق كل المخاطر التي أنجزت والتي ذابت مع مياه البحر.
كاتب المقال: معتصم يزبك، لاجئ سوري هرب بقارب من تركيا إلى إيطاليا في ديسمبر/كانون أول عام 2014، يعيش حالياً في ألمانيا، حيث يساعد القادمين الجدد من سوريا إلى البلاد.